استهلاك وإنتاج الطعام والشراب في المملكة النبطية


تتناول هذه الدراسة جانباً مهماً من جوانب الحياة اليومية في الحضارة النبطية، وهو

موضوع استهلاك وإنتاج الطعام والشراب، وهو من المواضيع التي لم تُطرح بصورةٍ

شموليةٍ من قِبل الباحثين من قَبل؛ وسبب ذلك قلة المادة العلمية المتوفرة التي كانت

حتى فترة متأخرة من ماضينا القريب مقتصرةً على إشارات قليلة متناثرة في ثنايا كتابي

ديودورس الصقلي وسترابو.

ما تزال معلوماتنا عن الكثير من الجوانب الحضارية والثقافية النبطية محدودة المصادر،

ونعتمد بشكل أساسي لفهم هذه الجوانب على المادة الأثرية المكتشفة واستقرائها

واستنطاقها، وتحليل ما ورد من إشاراتٍ مرتبطةٍ بها في المصادر التاريخية التي كُتبت

في مرحلة معاصرة لوجودهم، ويتوفر لنا ثلاثة مصادر فقط نستقي منها معلوماتنا عن

هذه الحضارة العربية الفريدة، وهذه المصادر كما سنرى لاحقاً  محدودة، ولا تُمكّننا من

إعادة تصور الحضارة النبطية كما ينبغي، مقارنة بالحضارتين اليونانية والرومانية

التي سَطرَّت لنا مصادرهما التاريخية والنقشية تاريخاً أكثر تفصيلاً، والمصادر التي

تتحدث وتُعرّج على حضارة الأنباط هي: كتاب ديودورس الصقلي، وكتاب جغرافية

سترابو، وكتابا جوسيفوس حروب اليهود، وتاريخ اليهود.

يُعتبر الخوض في موضوع إنتاج واستهلاك الأنباط للطعام والشراب في ضوء المصادر

التاريخية لوحدها أمرٌ متعذرٌ؛ لعدم كفاية المادة التاريخية المتوفرة، وبالتالي لا بُدَّ من

الاعتماد على المادة الأثرية المكتشفة لمناقشة هذا الموضوع بكل جوانبه، وهنا تبرز مشكلة

أخرى مرتبطة بشح وضحالة المادة المرتبطة بموضوعنا، بالمقارنة مع المادة الأثرية

النبطية المكتشفة بشكلٍ عامٍ، وسبب ذلك أن البقايا الحيوانية والنباتية التي كانت

تُمثِّل المصادر الأساسية للغذاء والشراب هي في طبيعتها مواد عضوية تفنى مع الزمن

وتتحلل ولا تدوم ضمن سياقات الطبقات الأثرية، بسبب طبيعتها وتركيبها الكيميائي

والفيزيائي، وتأثرها كثيراً بفعل عوامل مرتبطة ببيئة الدفن.

يُعدُّ موقع )الزنطور( الواقع إلى الجنوب من الشارع المُعّمد في مدينة البتراء الذي بدأت

فيه أعمال التنقيب عام 1988 م، أول موقع نبطي يُوفر مادة عضوية نباتية وحيوانية

مرتبطة ارتباطاً مباشراً بموضوع دراستنا وقبل ذلك كانت معلوماتنا المرتبطة بالمادة

الأثرية مقتصرة على معرفة أنواع الآنية التي استخدمها الأنباط لغايات إعداد وإنتاج

وتقديم الطعام والشراب، وهي معلومات بدأنا نعرفها منذ عام 1929 م، وهو العام الذي

أجُريت فيه أول حفرية في البتراء، وتعاقبت وتتابعت بعد ذلك الأعمال الآثارية الميدانية

التي مكنّتنا من معرفة معلومات مفصلة ودقيقة عن هذه الأواني التي لقيت اهتماماً

واضحاً من قبل العديد من المعنيين بدراسة الفخار النبطي.

لقد ساهمت الحفريات الأثرية التي أجُريت في عدد من المواقع النبطية -خصوصاً في

موقع الزنطور، والمعبد الجنوبي في البتراء، ومدائن صالح، وخربة الذريح، وصحراء

النقب، في جنوب فلسطين- في إماطة اللثام عن جوانب مهمة مرتبطة بموضوع دراستنا،

ومكّنتنا من وضعِ قائمةٍ بالمواد الأساسية التي كانت تُصَّنع منها الأطعمة والمشروبات،

وبعض تقنياتها.

وعلى الرغم من كِ مساحة المملكة النبطية جغرافياً، فإن المواقع التي كُشف فيها عن أدلة

لها علاقة بالأغذية والمشروبات ما زالت محدودةً بالنسبة للكم الهائل من المواقع النبطية

الموثقة والمعروفة، مما يجعل دراستنا هنا ناقصة وقابلة للتغيير والتعديل والتطوير في

أي وقت في ضوء نتائج الحفريات الأثرية القادمة التي ستُجرى في هذه المواقع.

وستسعى هذه الدراسة جاهدة إلى مناقشة وتحليل الأدلة الأثرية المرتبطة بموضوعنا،

وسيتم تقسيم الدراسة إلى أبواب تتناول مصادر دراسة غذاء ومشروبات الأنباط، والموارد

الطبيعية في المملكة النبطية، والنباتات والأشجار ومنتجاتها، والحيوانات ومنتجاتها،

والمشروبات التي كان يتناولها الأنباط.